07/06/2021 - 20:05

يلتهم نفسه بادئًا بقدميه | فصل

يلتهم نفسه بادئًا بقدميه | فصل

مايكل بارانكوفسكي | صمت

 

أطلق الكاتب والروائيّ الفلسطينيّ عبد الله الزيود، الطبعة الثانية من نوفيلا «يلتهم نفسه بادئًا بقدميه» (2021)، الّتي جاءت في 120 صفحة من القطع المتوسّط، عن دار «عصير كتب» المصريّة.

تنشر فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة الفصل الأوّل من الرواية لقرّائها، بإذنٍ من كاتبها.

***

 

من شبّاك «كولاتشينو» المطلّ على شارع الكرامة، لمحتُ عامر، صديقي الذي تعرّفتُ إليه للمرّة الأولى هُناك، قفز بسرعة وخفّة من سيّارة الأجرة، ودون أن يلتفت خلفه، أزال سمّاعة الهاتف من أذنه اليسرى، وصوّب نظرة نحوي، ثمّ ابتسم وهو يلوّح لي بيد شبه مفتوحة قبل أن يدخل إلى المقهى.

هُناك، في ذلك المقهى بالتحديد، تعرّفت للمرّة الأولى إلى قاموس الأحزان الغامضة

The dictionary of obscure sorrows

وإلى الكلمة التي ستعيش معي كلّ يوم كما لو أنّها تسبيحة أو تميمة:

- Sonder

سألته:

- ما الذي تعنيه هذه الكلمة يا عامر؟

- أن تُدرك أنّ لكلّ شخص في هذا الكون قصّته الفريدة يا رجل، أنّ لأيّ من المارّة حياة حيّة ومعقّدة مثل حياتك.

صمت.

سألته وهو يقترب من الكرسيّ رافعًا حمّالة الحقيبة عن كتفه:

- ما الذي أخّرك؟

- لم أكن أنتظر إجابة بقدر رغبتي في فتح باب للحوار.

أجاب دون أن ينظر إليّ:

- الحبكة يا رجل.

ثمّ التقط قطعة من البسكويت الذي في صحني ووضعها في فمه.

- Sonder

قلتُها بصيغة سؤال.

أجاب دون أن يلتفت:

- Sonder

- كيف تستطيع أن تفرّق بين ما يحدث معك… في الواقع أعني، وما يحدث في الكتابة؟ هل تعرف كلمة تصف هذه الحالة؟

- أعرف كلمة تصف صاحبها… ستكون عنوانًا لروايتي حين أنجزها.

سألته:

- ما هي؟

- لكنّه لم يُجب، وتابع من حيث يرغب في المتابعة:

- اسمع! هذه بداية ركيكة!

بدا واضحًا أنّه قد ضاق ذرعًا بكلّ البدايات التي جمعتنا معًا، أدار عينيه في محجريهما كما لو أنّه يبحث عن شيء عميق خلفهما:

- إن كان ثمّة من حوار في قصّة نحن أبطالها، فلا بدّ أن يكون مختلفًا.

ثمّ أخذ يجول بعينيه في المكان.

- قصّة! قصّة لقاء اليوم؟

- كلّ يوم. نحن حبكة جانبيّة في قصّة الكون يا رجل، أنت بطل قصّتك التي تصحو لتكمل كتابتها، وأنا شخصيّة ثانويّة فيها، وأنا بطل قصّتي وأنت شخصيّة ثانويّة فيها، وكلانا شخصيّتان عابرتان في قصّة المقهى الذي نجلس فيه… والمقهى مكان عابر في قصّة المدينة وهكذا… وهكذا…

غلاف الرواية

وحرّك يده كما لو أنّه يخلط شيئًا في الهواء.

تمتمت بطريقة توحي بأنّني أحاول فهم ما يقول:

- قصّة الكون، مممم.

لقد كنت أحاول فهمه. هو لا فهم ما يقول، لكنّه فاجأني بأن أمسك فمي!

- هُصّ!

- شو في؟

وأشار بحاجبيه إلى الأعلى:

- لا تتكلّم.

كان جدّيًا للغاية، فنظرت إلى حيث أشار بحاجبيه فلم أجد شيئًا. قلتُ في نفسي: "ماذا يحدث؟". وحرّكتُ رأسي بالسؤال.

- الحمامة

قلتُ:

- ما بها؟

وانتبهتُ إلى حمامة حطّت على الشرفة فوق رؤوسنا.

قال:

- انتبه! إنّها الراوي!

ثمّ فرط من الضحك.

نفضتُ يده عن فمي وابتسمت:

- اللعنة!

- هذا مثال على الابتكار في الحوار!

قالها وهو يلوك البسكويت في فمه، ثمّ تمتم وهو يخلع نعليه استعدادًا كي يقعد القرفصاء فوق الكرسيّ المقابل الذي أقعد عليه:

- بلى؛ هذا ابتكار في الحوار.

كثيرًا ما يفاجئني عامر بسلوكيّات صادمة، ولكنّها سلوكيّات من شأنها أن تعيش إلى الأبد، ما إن تبدأ الغرابة بالظهور في طريقة كلامه أو سلوكه حتّى تبدأ الأشياء بالتشكّل بطريقة مُغايرة، وهذا يفسّر الفهم الجديد للأشياء في حضورة.

- إن قررتُ الكتابة فلستُ واثقًا بما سأكتبه عنك، وأنت تأكل البسكويت من صحني في كلّ مرة نلتقي بها، ونقرفص فوق كرسيّ اخترعه الإنسان حتّى يقعد على قفاه، لا كما لو أنّه في حمّام عربيّ.

- سيكون ذلك ممتعًا بلا شكّ، الرجل الذي يقعد القرفصاء فوق الكراسي، ويشرع في الكلام… فتمشي تحت قدميه الطريق.

- هل هذا اقتباس؟ أم ارتجال جئت به للتوّ؟

أجاب:

- كلاهما

وارتسمت ابتسامة ضئيلة فوق شفتيه.

لم يكن ليفوّت لحظة دون أن يُصوّب بها لكمة نحو منطقة مكشوفة في عقل من يستمع إليه، الكلام، هكذا كان يرى الكلام: إمّا ضربة قاضية وإمّا… كلام.

ذات مرّة خلعتُ نظّارتي لأنظّف عدساتها فقال لي: 

- لديك شخصيّة أخرى خلف نظّارتك الطبيّة، إلّا أنّها محكومة بالظهور من خلفها، شخصيّة تزول إن أزلت نظّارتك الطبيّة، وتعاود الظهور في اللحظة التي ترتديها.

ثمّ أغمض عينيه.

قلتُ في نفسي: "ولديك بؤبؤان، سمكتان تسبحان تحت رمل حين تُغمض عينيك".

كان يصفن كثيرًا في الشبابيك، ويُكثر من تعديل جلسته كلّما طال الصمت وانقطع الكلام. أقول في نفسي: "في فمه كلام لم ينضج بعد، الفكرة على النار"، ثمّ أدرك أنّها بدأت بالغليان حين يعضّ سبّابته، وأستعدّ.

- لديّ نصّ، هلّا استمعت إليه؟

قلتُ:

- بالطبع، أرجوك.

ثمّ استلّ بدراميّة ورقتين من حقيبته، وأشار بحاجبيه:

- أقرأ؟

فأشرتُ إليه بيدي أن تفضّل بالقراءة.

"اقتحمت، عام 1990، شاحنة بيضاء صغيرة الحجم من طراز "دايهاتسوا"، بيت العائلة المكوّنة من أمّ وابنها في الواقع في حيّ النزهة في مدينة الزرقاء، ثاني المدن الأردنيّة الكبرى بعد العاصمة عمّان… كانت فاطمة…".

ثمّ بلع ريقه وأشاح بنظره عن الأوراق!

وصمتْ

حدّثته وأنا أحاول النظر في عينيه:

- أكمل.

- لم أكمل كتابتها بعد، ولن أستطيع، وأظنّ أنّك الأجدر في كتابتها.

- كيف أكون الأجدر بكتابة قصّة أنت كاتبها؟

قال:

- لا تكن ساذجًا! هل تظنّ أنّ هاتين الورقتين رواية؟! هذه الحبكة فقط، الكتابة هي ما بعد الورقتين.

ثمّ دفع بهنّ إليّ.

جلسنا بعدها قرابة الساعتين، يتكلّم ويبكي، ثمّ تشعّ عيناه كمن وجد نفسه، ثمّ تخبوان، كان يتناغم مع الحكاية كما لو أنّها حدثت بالفعل، ويتأثّر بأحداثها كما لو أنّها طازجة وتحدث للتوّ.

قلتُ له وأنا ما زلت أحاول الحصول على تواصل بصريّ بيننا:

- في جعبتك الكثير.

قال وهو ينظر إلى قدميه:

- ولكنّني لا أستطيع الكتابة

- أرجوك أن تحاول كتابتها

وهمّ بمغادرة المقهى بعد أن انتعل حذاءه:

- اعتبرني co-writer يا رجل، وابدأ الكتابة من حيث انتهيتُ أنا! ها؛ هل أقنعتك؟

وارتدى الحقيبة ثمّ وضع السمّاعات في أذنيه.

- ماذا تسمّي ما حدّثتني به للتوّ؟

- Skeleton

- هيكل عظميّ؟ هيكل القصّة العظميّ؟

- هيكلي أنا، هيكلي أنا العظميّ.

- وما الذي ينبغي أن أفعله بهيكلك العظميّ؟

- أن تكسوه لحمًا يا رجل… أراك.

قالها ولوّح بيده خلف رأسه

- سلام.

ودّعته مستخدمًا صيغة السؤال، وكنت أنتظر ردّ فعل قد يُعدّ استجابة.

تسجيل…

ثمّة لحظة، تقع في القلب وقوع المعدن فوق البلاط في الليل، لحظة توقظ فيك الدهشة القصوى، وتسوقك على غير هدى إلى ما يتشكّل الآن في رأسك دون خطّة مسبقة.

إنّها اللحظة التي تتحوّل فيها من موقع التلقّي إلى موقع الحدث، اللحظة التي تنتقل فيها من مقعد القارئ إلى مقعد الكاتب دون أن تقوم من مكانك، إن حصل وشعرت بشيء من هذا، فاترك كلّ ما يشغلك وانكبّ - بكلّ ما أوتيت من تركيز - فوق ورق الكتابة.

ستنتقل من كائن يرى الحياة تحدث للآخرين إلى كائن حيّ، من قطعة فوق لعبة لوحيّة إلى لاعب فعّال.

إنّها لحظة الوعي، اللحظة التي تتوسّع فيها حدقة العين كما لو أنّها تُدخل مزيدًا من الضوء إلى النقطة العمياء جوّاك، لحظة تتضح فيها الشخصيّات التي تذهب بسلاسة إلى قدرها الذي بدأت بكتابته.

يحدث هذا كما تحدث قرقعة بين إصبعين، إلّا أنّها لحظة ممتدّة من الصمت الذي لا يمكن أن تقطعه صاخبات الليالي، لحظة توقّفك على الطرق الخارجيّة منتصف الليل لتكتب فكرتك المذهلة.

إن كتبت يومًا قصيدة حقيقيّة ستفهم ما أقول. إن تمكّن منك الصداع حتّى شعرت كما لو أنّه يقشّر جلدك، إن هربت من مناسبة عائليّة إلى معمل الإنتاج (غرفتك) أو سيّارتك أو حمّام عموميّ، وأغلقت عليك الباب، ربّما ستفهم ما أقول؛ إن وجدت نفسك مضطرًّا إلى الكذب على أقرب الناس إليك لأنّك مسكون بكتابة الفصل الأخير.

هذه لحظة الحياة، لحظة النصّ الثمين، وما عداها فواصل ضروريّة للحدث العظيم.

 

عبد الله الزيود

 

 

كاتب فلسطينيّ من مواليد الأردن عام 1985، نشر عددًا من الكتب منها «يلتهم نفسه بادئًا بقدميه" 2021، «باولا: قصص عن غير الناطقين بها» 2016، «ولم نلتق بعد» 2013. حاز على جوائز محلّية وعربيّة، منها «جائزة ملتقى الإعلاميين الشباب» 2009، و«جائزة محمود درويش» 2015.

 

 

 

التعليقات